تغييرات رئاسة الحكومة المتسارعة في تونس- أزمة حكم أم مسرحية سياسية؟

لم تشهد الجمهورية التونسية، على امتداد تاريخها المديد منذ نيل استقلالها في شهر مارس من العام 1956، مثل هذا التدفق الغزير من التعيينات والإعفاءات في منصب رئيس الحكومة، كما هو الحال في عهد الرئيس الحالي، قيس سعيّد.
فمنذ أن تبوأ سدة الحكم إثر انتخابات عام 2019، وحتى بزوغ فجر يوم السبت المنصرم، حين أقدم الرئيس سعيّد على تعيين وزيرة التجهيز السابقة، سارة الزعفراني الزنزري، رئيسةً جديدةً للحكومة، يكون قد تعاقب على هذا المنصب الرفيع ستة رؤساء حكومات في غضون فترة زمنية وجيزة لا تتعدى الخمس سنوات. ويلاحظ أن هذه التعيينات والإقالات تتشابه إلى حد كبير في الأسباب والدوافع المعلنة، دون أن يكون وراءها صراعات حادة على السلطة، أو حتى خلافات جوهرية مع الرئاسة في أي قضية أو ملف محدد. وقد بات دور الوزير، شأنه شأن القاضي وأي مسؤول آخر في الدولة، أشبه "بوظيفة" تنفيذية، وليس منصبًا سياسيًا ذا تأثير ونفوذ، وفقًا لما صرح به الرئيس التونسي منذ اعتماده "دستور 2022"، الذي خطه بيده وجعله منهاجًا لإدارة شؤون البلاد.
في السابع والعشرين من شهر فبراير/شباط لعام 2020، قام الرئيس سعيّد بتعيين إلياس الفخفاخ، القيادي في حزب "التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات"، الذي كان يشكل أحد أركان "تحالف الترويكا" الذي قاد تونس عقب انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2011، رئيسًا للحكومة. وقد استغل الرئيس سعيّد آنذاك عدم تمكن حركة النهضة، التي كانت تتمتع بالأغلبية في البرلمان، من تمرير مرشحها، الحبيب الجملي، لرئاسة الحكومة. وبذلك، عاد قرار الاختيار والتعيين إلى رئيس الجمهورية، بموجب دستور 2014، وهو ما بادر إليه قيس سعيّد، ليحكم قبضته على السلطة التنفيذية ويسحب البساط من تحت أقدام البرلمان وبقية القوى السياسية الممثلة فيه.
إلا أن فترة بقاء إلياس الفخفاخ على رأس الحكومة كانت قصيرة، بل الأقصر في سلسلة رؤساء الحكومات الذين عينهم رئيس الدولة منذ ذلك الحين. فلم يزد مكوثه في قصر الحكومة بالقصبة على ستة أشهر ونيف، حيث أُعفي من مهامه في الثاني من سبتمبر/أيلول 2020، على خلفية خلافات محتدمة بينه وبين الأغلبية البرلمانية، فضلًا عن الخلافات العميقة داخل التحالف الحاكم، الذي كان يضم "حركة النهضة" وحزب "التيار الديمقراطي" و"التكتل الديمقراطي" و"حركة الشعب".
في خضم هذا المشهد السياسي المتأزم، استعاد البرلمان صلاحياته الدستورية المخولة له، وتمكنت الأغلبية البرلمانية من فرض اسم رجل الإدارة المخضرم، هشام المشيشي، (المستشار القانوني للرئيس سعيّد سابقًا)، رئيسًا جديدًا للحكومة، في الثاني من سبتمبر/أيلول 2020. وقد جاء هذا التعيين في ظرف بالغ الدقة، لتزامنه مع تفشي جائحة "كوفيد-19" وتداعياتها الوخيمة على الحكومة والشعب التونسي، بالإضافة إلى انعكاساته السياسية على التحالفات الحزبية الحاكمة في تلك الفترة.
واجه المشيشي تحديات جمة في علاقته بالقصر الرئاسي، لا سيما في مجال إدارة أزمة "كوفيد-19". ولم يتح له المجال الكافي للتحرك نحو توفير اللقاحات اللازمة للتونسيين، حيث اصطدم بتعقيدات سياسية ودبلوماسية جمة، منعته من الظفر بعقود لشراء اللقاحات من الشركات العالمية المتخصصة.
وهو الأمر الذي وضعه في مأزق حقيقي، انتهى بإقالته من قبل الرئيس قيس سعيّد، الذي اتهم الحكومة بالتقصير والإهمال في توفير اللقاحات والأكسجين للمواطنين التونسيين.
كان ذلك في الخامس والعشرين من يوليو/تموز 2021، وهو التاريخ الذي شهد ما وصف بـ "الانقلاب السياسي"، الذي أقدم عليه الرئيس قيس سعيّد، في أعقاب اجتماع "تاريخي" لمجلس الأمن القومي، تخلله خطاب شديد اللهجة لرئيس الجمهورية، أعلن فيه إقالة الحكومة وحل البرلمان التونسي، ووضع دبابة أمام مقر مجلس نواب الشعب.
بالإضافة إلى سلسلة من الإجراءات الأخرى التي باتت معروفة للجميع، معلنًا بذلك نهاية مرحلة سياسية بأكملها، امتدت من الرابع عشر من يناير/كانون الثاني 2011، تاريخ اندلاع الثورة التونسية، إلى الخامس والعشرين من يوليو/تموز 2021.
امرأة على رأس الحكومة.. ولكن
فور إعلان "الانقلاب"، والانتهاء من صياغة الدستور الجديد من قبل رئيس الجمهورية شخصيًا، قام قيس سعيّد بتعيين نجلاء بودن، رئيسة للحكومة، دون أن يكون لها أي سجل حافل في العمل السياسي أو المناصب السياسية الرفيعة، لتصبح بذلك أول امرأة تتبوأ هذا المنصب في تاريخ البلاد، وذلك بعد اعتماد الدستور الجديد في عام 2022.
استمرت بودن في منصبها على رأس الحكومة لمدة عام كامل، حتى الأول من أغسطس/آب 2023، عندما أقيلت بدورها، دون ذكر أسباب واضحة ومحددة، إلا ما تناقلته بعض التسريبات الإعلامية والسياسية، عن إصابتها بمرض ألمّ بها، وبات يعيق استمرارها في مهمتها الحساسة والدقيقة، في ظل ظرف تاريخي عصيب بكل المقاييس.
كانت نجلاء بودن، في واقع الأمر، مجرد "موظفة حكومية" بالمعنى الحرفي للكلمة، تدير شؤون الحكومة بالتنسيق الوثيق مع رئاسة الجمهورية، وتجسد بذلك جزءًا ضئيلًا من السلطة التنفيذية، التي كان الرئيس قيس سعيّد يمثل جناحها المهيمن والمسيطر حتى الآن.
فقد تم اختيار هذه السيدة بعناية فائقة ودقة متناهية، لتكون الأداة التنفيذية الأمينة لخيارات رئيس البلاد، والجهة التي لا يخشى منها أي معارضة أو مناكفة للرئاسة، أو الدخول معها في صراع على النفوذ، حتى وإن كان ذلك يصب في مصلحة الدولة.
ومع عملية "التهميش" التي طالت الأحزاب والمشهد السياسي برمته، وتراجع مسار الانتقال الديمقراطي، وصعود برلمان جديد موالٍ في غالبيته لرئيس الدولة ومتماهٍ معه، لم تجد هذه السيدة أي صعوبة في أداء مهامها على رأس الحكومة، التي باتت أشبه بـ "الغرفة الرئاسية الثانية"، كما يصفها بعض المراقبين، الذين يشير بعضهم الآخر إلى أن بودن قد تقدمت بطلب إلى أعلى هرم في السلطة، لإعفائها من مهامها، وهو ما تم بالفعل في الأول من أغسطس/آب 2023، عندما تم تعيين أحمد الحشاني خلفًا لها.
لقد تم استقدام الحشاني من بيته، حيث كان يمضي سنوات تقاعده الأولى، بعد أن غادر الوظيفة في عام 2018، عقب شغله منصب مدير عام للشؤون القانونية بالبنك المركزي التونسي، ثم مدير عام للموارد البشرية في نفس المؤسسة المصرفية المرموقة. والجدير بالذكر أن الرجل لم يتقلد أي مسؤولية سياسية في مسيرته الوظيفية، ولم يعرف عنه انخراطه في أي نشاط سياسي طوال حياته المهنية والشخصية، باستثناء ما عرف عنه من انتمائه إلى سلالة "علي باي الثالث"، أو الباي الثالث عشر، كاحد البايات الذين حكموا تونس في عهد الدولة الحسينية (1882 ــ 1902)، وهو ما كان يعبر عنه صراحة على صفحته في موقع "فيسبوك"، مظهرًا إعجابه الشديد بالنظام الملكي وبعصر البايات.
من الشعبوية.. إلى الشعبوية
والأغرب من ذلك، أن الحشاني كان من أشد المؤيدين لإقامة نظام ملكي دستوري في تونس، بحجة أن ذلك "سيجنبها السقوط في براثن الدكتاتورية الرئاسية أو البرلمانية، ويخلصها من النزعات القبلية والشعبوية"، وفقًا لما كان ينشره على صفحته في مواقع التواصل الاجتماعي، منتقدًا بحدة أسلوب الرئيس سعيّد في الحكم، الذي كان يصفه بـ "الشعبوي". وعلى الرغم من كل ذلك، وجد نفسه ــ وبغرابة شديدة ــ معينًا من قبل الرئيس سعيّد، على رأس الحكومة التونسية.
وقد فسر بعض المقربين من رئاسة الحكومة هذا التعيين المفاجئ، والذي لم يخطر ببال أحد من المشتغلين بالشأن السياسي، داخل السلطة وخارجها، بأن الحشاني "كان مؤيدًا لعلمانية الدولة، وممن يكنّون عداءً شديدًا لأحزاب "الإسلام السياسي"، وعلى رأسها "حركة النهضة"، وهي الورقة الرابحة التي حفزت الرئاسة ومحيطها على تعيينه، فضلًا عن ميوله اليسارية، التي تتلاقى ــ وربما تتفق ــ مع توجهات بعض مكونات الحكم حاليًا.
لكن هذه المعطيات ستتغير جذريًا بمجرد أن وجد الرجل نفسه على رأس الحكومة، ليتحول إلى "زعيم الشعبوية"، وينادى عليه من قبل الحشاني بـ "العزيز" (حيث كان يتوجه لرئيس الجمهورية بالقول: عزيزي قيس سعيّد).
استمر أحمد الحشاني في منصبه على رأس الحكومة لفترة لم تتجاوز عامًا وسبعة أيام بالتمام والكمال، قبل أن تتم إقالته، بحجة أنه "لم ينجز شيئًا يذكر"، كما قيل في الأوساط الرسمية، أو تلك المعبّرة والمفسرة لخطابات رئيس الجمهورية وقراراته.. بل إنه ما إن غادر رئاسة الحكومة، حتى وجد نفسه في مواجهة قرار قضائي بمنعه من السفر، بتهم تتعلق بالفساد المالي والإداري، لم يصدر بشأنها إلى الآن أي بيان رسمي من الدولة التونسية.
وقد انتقدت أوساط واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي أداء الرجل، ولعل أطرف ما تم تداوله على نطاق واسع، ما كتبته امرأة تونسية تنشط في المجال السياسي، قائلة: "هذه هي المرة الثالثة التي يذكرك فيها التاريخ: المرة الأولى عندما تم تعيينك رئيسًا للحكومة وأنت شخص غير معروف، والمرة الثانية عندما غادرتها من أصغر أبوابها دون أن يكترث برحيلك أحد.. وهذه هي المرة الثالثة، لأنك ستكون أول وزير تتم معاقبته لأنه لم يفعل شيئًا…!".
وبالفعل، كان خروج الحشاني من رئاسة الحكومة مثيرًا للشفقة والرثاء، تمامًا كما كان تعيينه مدعاة للسخرية والتهكم، ومثل صنوه نجلاء بودن، لم يذكر لهما المراقبون أي إنجاز يشار إليه بالبنان.
وهكذا، طويت صفحة الحشاني يوم 8 أغسطس/آب 2024، وهو اليوم الذي كلف فيه الرئيس التونسي وزير الشؤون الاجتماعية، كمال المدوري، برئاسة الحكومة خلفًا له.
كفاءة وطنية.. في مهبّ الإقالة
وقد استبشرت بعض الأوساط السياسية برئيس الحكومة الجديد، لا سيما المقربين والموالين لرئاسة الجمهورية، نظرًا للسجل الحافل للرجل، فهو خريج المدرسة الوطنية للإدارة، إحدى أعرق المؤسسات التعليمية التونسية التي يتخرج فيها "رجال الدولة"، والخبير المتمرس في مجال السياسات الأوروبية والعلاقات المغاربية – الأوروبية، بالإضافة إلى دراسته وتخرجه في معهد الدفاع الوطني، وعمله لفترة طويلة ضمن المدرسة العليا لقوات الأمن الداخلي (قوات الشرطة).
يضاف إلى كل ذلك، تجربة كمال المدوري الثرية والعميقة في الصناديق الاجتماعية (صندوق التقاعد، وصندوق التأمين على المرض)، وهما مؤسستان على درجة كبيرة من الأهمية في إدارة السلم الاجتماعي، وتحقيق الاستقرار للمؤسسات الاقتصادية، وضمان استدامة المصالح الصحية للمواطنين.
وقد شرع الرجل بحماس ونشاط في إعادة ترتيب البيت الداخلي لرئاسة الحكومة، في ظل مناخات سياسية واقتصادية معقدة للغاية، وحرص على تنظيم سير العمل داخلها، على نحو يسمح لها بتجسيد السلطة التنفيذية على الوجه الأمثل، ضمن الأطر القانونية المنظمة. إلا أن جهوده اصطدمت بالخيارات السياسية للسلطة العليا في البلاد، وبالنقص الحاد في الموارد المالية المتاحة، وشح المستثمرين الأجانب وعزوفهم عن القدوم إلى تونس واستثمار أموالهم فيها؛ بسبب الوضع السياسي الغامض والمليء بالتساؤلات المقلقة.
ومع نفاد صبر العديد من التونسيين، الذين يعانون من الارتفاع المطرد في الأسعار، والنقص الحاد في توفر المواد الغذائية الأساسية، التي ما يزال الحصول عليها يستلزم الوقوف في طوابير طويلة، واكتشاف المواطنين العديد من التناقضات الصارخة في الخطاب الرسمي، كان لا بد من إيجاد وسيلة لإلهاء الرأي العام وتشتيت انتباهه، أمام موجة الغضب المتصاعدة، وهو ما دفع ثمنه رئيس الحكومة، كمال المدوري، الذي أقيل من مهامه في الحادي والعشرين من مارس/آذار 2025، وسط تسريبات إعلامية تتحدث عن استقالته التي قدمها، عندما شعر أن قرار إنهاء مهامه يطبخ على نار هادئة في أروقة السلطة.
وسواء صدقت هذه التسريبات أم كذبت، فالنتيجة النهائية واحدة، وهي إقالة رئيس الحكومة، مع تحميله المسؤولية الكاملة عن ضعف الأداء الحكومي والعجز عن محاربة اللوبيات المتنفذة، وخاصة الفشل في تحقيق أي إنجاز اجتماعي أو اقتصادي ملموس على أرض الواقع.
وهكذا، في فجر يوم الجمعة الموافق للحادي والعشرين من شهر مارس/آذار، تم الإعلان رسميًا عن تعيين سارة الزعفراني الزنزري، وزيرة التجهيز والإسكان، خلفًا له في رئاسة الحكومة. وكما هو الحال مع أسلافها السابقين، فإنها امرأة لا تملك سجلًا سياسيًا حافلاً، وتفتقر إلى الخبرة والتجربة في رئاسة الحكومة أو تولي المناصب الحساسة في الدولة. وقد تم الدفع بها إلى هذا المنصب الرفيع، وفي هذا التوقيت الدقيق والحساس، مما يجعلها "على كف عفريت الإقالة"، كلما اقتضت ذلك "ضرورة رئاسية"، على حد تعبير بعض المراقبين.
والحقيقة التي لا يمكن إنكارها، أن هناك أربعة قواسم مشتركة تجمع بين رؤساء حكومات الرئيس قيس سعيّد، وهي أمور تستدعي التوقف والتأمل:
- أنهم لم يكونوا سوى موظفين عاديين يشغلون مناصب إدارية رفيعة في مؤسسات وهيئات حكومية، ولم يتمتعوا بخبرة كافية في تولي الحقائب الوزارية الأخرى، أو العمل ضمن النسيج الحكومي المتشابك.
- أنهم لا ينتمون إلى تيارات أو مدارس سياسية محددة، ولم تكن لديهم تجارب سياسية معروفة لدى الأوساط السياسية المهتمة بالشأن العام، وهو أمر مقصود ومخطط له من قبل رئاسة الجمهورية، التي راهنت منذ "انقلاب يوليو/تموز" 2021، على استهداف وتقويض المشهد السياسي برمته، بأحزابه وشخصياته وقياداته التاريخية، أو تلك التي ظهرت وبرزت بعد الثورة.
- أن معظم الذين تم تعيينهم، إن لم نقل كلهم، يقفون في صف المعارضة للإسلام السياسي، وذلك في ظل الظرفية الراهنة، التي تتصدر فيها رئاسة الجمهورية حملة شرسة ضد هذا التيار، وتتهمه بـ "التآمر على أمن الدولة" و"التسفير"، وغيرها من التهم ذات الصبغة السياسية الواضحة.
- أن مختلف الذين دخلوا قصر الحكومة بالقصبة، خرجوا منه كما دخلوه أول مرة، أي صفر اليدين، فلا تصورات جديدة لإدارة شؤون الدولة، ولا إنجازات تذكر، ولا حتى ديناميكية إيجابية يشعر بها المتابع للشأن العام، فضلًا عن المختصين والخبراء والمطلعين عن كثب على تفاصيل الأمور وخفاياها.
تقاليد ذهبت أدراج الرياح
والملفت للنظر في هذا الكم الهائل من التعيينات والإقالات المتلاحقة على رأس الحكومة، في فترة زمنية قصيرة جدًا، أن تونس كانت تتمتع بتقاليد راسخة في المحافظة على استقرار حكوماتها، حتى في ظل الأحداث السياسية الكبرى والمنعطفات التاريخية الهامة.
فخلال فترة حكم الرئيس الحبيب بورقيبة المديدة، التي امتدت لما يقارب الواحد والثلاثين عامًا، لم يتداول على منصب رئاسة الوزراء سوى خمس شخصيات بارزة فقط، تنتمي إلى عالم السياسة، وتحديدًا إلى الحزب الحاكم آنذاك (الحزب الاشتراكي الدستوري)، وكان تعيينهم مرتبطًا بأزمات اجتماعية وسياسية طارئة، وبتغيرات حقيقية وجوهرية في صميم المجتمع، وفي علاقته بالدولة، وبصراعات خفية على السلطة، مع بداية مظاهر الضعف والترهل التي بدت على الدولة، وتقدم الرئيس بورقيبة في السن. ونذكر من بين هؤلاء، الباهي الأدغم، والهادي نويرة، ومحمد مزالي، ورشيد صفر، وصولًا إلى زين العابدين بن علي، الذي سيقوم لاحقًا بانقلاب على بورقيبة في عام 1987. إلا أن بن علي لم يشذ عن تلك "القاعدة" الراسخة، أي التعيينات الموزونة، حيث قام بتغيير رؤساء الحكومات في ثلاث مناسبات فقط، خلال فترة حكمه التي استمرت 23 عامًا، وكانت أقصرها مع الهادي البكوش (من نوفمبر/تشرين الثاني 1987 إلى سبتمبر/أيلول 1989).
فيما تولى حامد القروي رئاسة الوزراء لمدة عقد كامل (1989 ــ 1999)، وظل محمد الغنوشي رئيسًا للحكومة منذ عام 1999 وحتى ما بعد اندلاع الثورة التونسية، وتحديدًا في شهر مارس/آذار 2011 (أي ما يقارب 12 عامًا).
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في هذا السياق، هو: ما الذي يمكن أن يفسر هذه التعيينات والإقالات المتسارعة، والتي لا تخضع لأي منطق سياسي سليم، ولا تستجيب لأي حاجة اجتماعية أو سياسية ملحة، وليست استجابة لضرورات واقعية ملموسة؟!
هنا يمكن للمرء أن يشير إلى جملة من الملاحظات الأساسية الجوهرية:
- أن هذه الإقالات والتعيينات المتلاحقة، تعبر عن أزمة حقيقية في إدارة شؤون الدولة، ناجمة عن غياب التصورات الواضحة والرؤى المستنيرة التي تنبني على دراسات علمية ولجان تفكير متخصصة. ولذلك، كانت السنوات الخمس الماضية أشبه ما تكون بدوامة مفرغة، بحيث يأتي رئيس حكومة ليخلف من سبقه، دون أي رابط أو خيط ناظم، أو بوصلة واضحة يعمل هؤلاء الرؤساء من خلالها أو في ظلها.
- أن مركزية السلطة والقرار في يد رئيس الجمهورية، وهو ما يضيق بشدة هامش التحرك والتفكير والإبداع لدى هؤلاء الرؤساء. فحتى الأنظمة الرئاسية العريقة، تمنح المسؤولين فيها مساحة كافية للتحرك والتخطيط والتنفيذ والإنجاز، ضمن رؤية واضحة المعالم.
- إنه مع كل إقالة لرئيس حكومة، يشعر المرء أن هناك أخطاء جسيمة قد ارتكبت، وسيناريوهات وخيمة قد فشلت، وتصورات خاطئة لم تجد طريقها إلى النجاح. لذلك تسارع السلطة إلى التغيير، مما يجعل رؤساء الحكومات أشبه بـ "كبش فداء" يتم التضحية به، من أجل استمرار الوضع القائم.
- غياب أي مشروع سياسي واضح المعالم لدى السلطة الحاكمة، التي ما تزال تقتات على مقولات "التخوين" و"التآمر" و"اللوبيات" و"المؤامرات"، دون القدرة على الخروج من هذه الدائرة المفرغة، التي لم تعد تقنع حتى المقربين من السلطة. وعندما يغيب المشروع السياسي المتكامل، تكون القرارات السياسية على هذا النحو من الهشاشة والضعف، التي يلاحظها المراقبون في الخيارات السياسية التونسية الراهنة.
- أن الصورة التي تقدم للرأي العام، من وراء هذه الإقالات المتلاحقة، تؤكد أن منصب رئاسة الحكومة هو "وظيفة هشة" للغاية. فإقالة هذه الشخصيات بهذه الطريقة المهينة، لا تضر بأشخاصهم فقط، ولكنها تسيء إلى المنصب ذاته، وتقلل من هيبة المسؤولية السياسية. بل إن بعض المختصين في العلوم السياسية يعتبرون ذلك "مدخلًا لتقويض أسس الدولة التونسية الحديثة، ويمثل ضربة قاصمة لمقومات الجمهورية"، على حد تعبيرهم.
أين الاستقرار السياسي؟
لقد أدت هذه التعيينات والإقالات المتسرعة والمتلاحقة، إلى ضرب الاستقرار السياسي في البلاد، وفي أوساط الحكومة، في الصميم. والاستقرار هو السبب الرئيسي الذي اتخذه الرئيس التونسي، قيس سعيّد ذريعة للقيام بانقلابه، عندما تحدث عن غياب الاستقرار الحكومي؛ بسبب تلك التحالفات الحزبية المكثفة والمتغيرة، وما يصاحبها من حسابات سياسية معقدة، وفقًا لتقديراته.
على أن المتعارف عليه تاريخيًا في إقالة رئيس الحكومة، سواء في تونس أو في الدول الديمقراطية العريقة، هو أن تترافق إقالة رئيس الوزراء مع رحيل معظم وزراء الحكومة، إن لم يكن جميعهم، على أساس أن عملية تغيير الحكومة تهدف إلى الدخول في مرحلة جديدة من الديناميكية والنشاط، تحتاجها السلطة الحاكمة، ويستوجبها الوضع العام في البلاد. وبالتالي، فإن المسألة لا تتعلق بشخص واحد فقط، هو رئيس الحكومة، وهو ما يغلب على جميع الإقالات التي نحن بصددها.
لن نذهب بعيدًا في وصف الوضع، على أساس أنه ترجمة لحالة من الفوضى أو العبثية أو "المسرحية الهزلية"، كما يصفه بعض السياسيين المعارضين للحكم، ولكنه في جميع الأحوال، تعبير واضح عن حالة "العطل السياسي" التي تعيشها السلطة منذ فترة طويلة، وهي التي جاءت منتقدة "عطل المجتمع السياسي"، ولكنها قامت بإحالته على "التقاعد"، دون أن تتمكن من ضخ دماء جديدة في شرايين الحكم، أو في دواليب السلطة، مما جعل الأفق مسدودًا، والمستقبل ضبابيًا، والغموض يهيمن على المشهد التونسي برمته، الذي يبقى مفتوحًا على جميع الاحتمالات.